الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

اسطنبول الذكريات والمدينة ، أورهان باموق


تحميل كتاب: اسطنبول الذكريات والمدينة

العنوان: اسطنبول الذكريات والمدينة
المؤلف: أورهان باموق
تعريب: أماني توما وعبد المقصود عبد الكريم
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة
الطبعة: الأولى 2010
التحميل: اضغط هنا

عن الكاتب: 
أورهان باموق كاتب تركي ولد عام 1952، عاش طفولته حتى الثانية والعشرين من عمره وهو يرسم، معتقدا أنه لن يكون إلا رساما في المستقبل كما ذكر ذلك في كتابه "اسطنبول" الذي تناول سيرته الذاتية. وبعد أن درس ثلاث سنوات في كلية العمارة في الجامعة التقنية في اسطنبول، قرر أنه لن يكون مهندسا معماريا ورساما، ودرس الصحافة في جامعة اسطنبول. وفي الثالثة والعشرين من عمره قرر باموق أن يكون روائيا، وترك كل شيء ما عدا هذا المجال، وأغلق على نفسه الباب وبدأ يكتب.
كان أحد كاتبين فازا في 1982بجائزة الرواية لمنشورات جريدة ملييت عن روايته الأولى "جودت بيك وأبناءه". وفاز في نفس السنة فاز بجائزة أورهان كمال للرواية. 
نشر باموق في السنة التالية روايته "البيت الصامت"، وحازت هذه الرواية بعد ترجمتها إلى الفرنسية "جائزة الاكتشاف الأوروبية" سنة 1991. 
مثلت روايته "القلعة البيضاء" التي صدرت في 1985 والتي تروي علاقة صداقة وتوتر بين عبد من البندقية وعالم عثماني، أولى رواياته التي نقلته إلى العالمية من خلال ترجمتها إلى العديد من اللغات.
أورهان باموق هو أول تركي يحوز جائزة نوبل للآداب عام 2006

نبذة عن الكتاب: 
في رواية "اسطنبول الذكريات والمدينة" يأخذنا أورهان في عالم اسطنبول بسوداويته وثقل خسارة الحضارة التي كانت مُشعة يوماً.. يفتح الأبواب والنوافذ، ويُسلط النور حتى على شمسها، ويُسربل الليل بظلام من نوع آخر، بين الشيء ونقيضه، بين الفرد والمجموع، بين المدينة وعالم حاضرها وحكايات أمسها، في رواية يسرد خلالها ذاته بجرأة وحميمية، فيحكي لنا تفاصيل حياته وما التقطه من حوله، والأهم اسطنبول بعيون أورهان وإحساسه وكأنه يُعرّي أمامنا المدينة الإنسان – متمثلة فيه بشكل أكبر - في مزيج غني مفاجئ مختلف عما قد نعرفه عن عاصمة الإمبراطوريات قسطنيطينة الأمس، اسطنبول اليوم، شراً كان أم خيرا.
أورهان آخر
من البداية يستخدم أورهان بعفوية تقنيته الجاذبة، حيث البساطة في الأسلوب لا تنفي عمقه، ففي الفصل الأول بعنوان" أورهان آخر" يشاركنا بشكوك الطفولة لعالم مواز وشبحه الآخر كما يصفه، طفل مميز رغم أنه لا يرى ذلك وقتها، يتحدث بلسان أبرز ذكرى من بداياته ".. ساورتني منذ نعومة أظافري شكوك في أن دنياي بها أكثر مما أرى، كان يعيش، في مكان ما في شوارع اسطنبول، في منزل يشبه منزلنا، أورهان أخر يشبهني كثيرا".
وبيسر نصل إلى لب القضية التي تجعل من أورهان الحكّاء الأقدر ليس فقط عن ذاته بطبيعة الحال، إنما عن اسطنبول ذاتها، لنتابع قوله: ".. لم أترك اسطنبول أبدا.. أعرف أن هذه المثابرة تدين بعض الشيء لصديقي الخيالي، أورهان الآخر، والعزاء الذي يقدّمه لي الارتباط بيننا..ولذلك انتبه جيدا عزيزي القاريء، سأكون صريحاً معك وفي المقابل أطلب منك بعض التعاطف".
بهذه الكلمات ندخل خليطاً عجيباً من الوقائع والذكريات وتحليل المحيط والآراء وعوالم الأغنياء والبسطاء، مع كتاب الأعمدة والصحافيين والأدباء والسياسيين والشعراء، ونساء المدينة ورجالها، خلال حكايات الإعدامات والجريمة والباحثين وعالم أورهان الخيالي والواقعي، والانتصارات الآفلة والإمبراطورية العثمانية والإمبراطوريات الأخرى المتعاقبة على اسطنبول، ونطوف على البسفور متأملين على ضفافه حينا وغارقين في الأبيض والأسود كانطباعات منه حينا آخر، وتؤدي الصور الكثيرة التي طّعمت بها الرواية دوراً في كل ذلك، وهكذا يجذبنا أورهان برفق لنجلس معه، يحكي لنا عن اسطنبول وتحكيه هي بشعور بألفة غامض، ومهما اختلفت مشاربنا وأفكارنا لابد أن يستحوذ كل ما جاء على لسان أورهان على اهتمامنا بإنسانية خالصة.
أربعة كتاب سوداويين
خلال الفصول الأولى من الرواية سيكون الشعور بكيان أورهان صغير يرى أبعد مما يراه الكبار، ويجد القاريء نفسه يصغر فيأخذ بيده في صداقة بطفولية ناعمة، سريعة مشوّقة، وطلب التعاطف هنا ليس غاية، بل الغاية في الصراحة التي رغم تماديها ليست صادمة بقدر ما هي مفاجئة سواء للقاري العربي أو الغربي، وهذا ما سيتضح الإحساس به في الربع الأول من الرواية.
المعلومات التاريخية تنساب فعلا مشكلةً فسيفساء أورهان اسطنبول التي تبقى كوحدة متكاملة حاضرة طوال الوقت حتى النهاية، ويشركنا في إعادة اكتشاف اسطنبول طفولته في الفصل الحادي عشر من الكتاب بعنوان أربعة كتاب سوداويين منعزلين، فنتعرف برؤية فريدة – كما هي بعيون أورهان على طول الخط - الشاعر يحي كمال والمؤرخ الشهير رشاد أكرم قوتشو، و كاتب المذكرات عبد الحق شناصي حصار، والروائي أحمد طانبار، الذين كانوا بمثابة أبطال طفولته، ويستعرض ما يراه الغير فيهم فندرك ضحالة التفكير التي هي سمة غالبة وظالمة في أحيان كثيرة، فينصفهم أورهان ومن خلالهم يدرك – ونحن معه – مستغرقا في أحلام يقظة عن هؤلاء الأربعة في نقطة من طفولته التالي: " .. طوبوغرافيا المدينة ومبانيها ليست هي وحدها ما يمنح المدينة شخصيتها المتميزة، لكن المجموع الكلي لكل ما تصادفه، كل ذكرى وحرف ولون وصورة تتصادم في الذاكرة المحتشدة لسكانها بعد أن يكونوا قد عاشوا، مثلي، خمسين عاماً في الشوارع نفسها ."
في أجزاء عدة من فصول الكتاب يبدو الغرب كثقل وعيون متعالية يحاول أهل اسطنبول المتأثرين – رغم إنكارهم أو محاولة تجهاهلهم – بانهيار الإمبراطورية العثمانية إخفاءها ويعيشون التناقض تحت ظل السياسة في تركيا ككل ونستشعر ثقل المرحلة التآكلية بين المجد الذي ولّى ومشروع الحداثة وغيرها من التيارات الفكرية والسياسية التي مرت في فترات متقاربة على البلاد، بارزة في اسطنبول ككيان حي مترنح متثاقل بين الحلم والواقع وضبابية المستقبل.
ومن روح هذا القلق كان أورهان يتحسس صورة مغايرة لمدينته عما يقال عامة، ومن هنا إدراك أزمة الهوية والعزة خلال الثقة بالوجود وبريق الآخر بين ثنايا كل ماسبق، فيقول هو عن أبطاله السوداويين: ".. وقد حيّرهم التناقض الذي شعروا به بين هذين الأمرين – أن يكونوا غربيين وأصلاء في الوقت نفسه – ويمكن إدراك هذا القلق حتى في أعمالهم الأولى"، ويقتبس أورهان في صفحات تالية لشناسي حصار ما يراه متأسيا على حضارة البسفور".. كل الحضارات زائلة مثل الناس الذين في المقابر الآن تماماً كما أننا لابد أن نموت، لابد أيضا أن نتقبّل أنه لا عودة لحضارة انتهى زمنها".
لوقت طويل حتى قرب نهاية الرواية، يبدو أورهان مقتنعاً بما سبق تمام الاقتناع، لكن ظلال السوداوية التي تطبع حديثه – والتي هي بالمناسبة بعيدة عن الكآبة - صاحبة جمال أخّاذ،تتكيّف لمفاجأة إدراكية عميقة نستكشفها لاحقاً.
اسطنبول الذكريات والمدينة"، من الروايات القليلة التي تستحق أن تقرأ أكثر من مرة، ورغم السوداوية التي يتحدث عنها بإسهاب، تتخللّها التفاصيل الممتعة، إلا أن الحزن لا يتسرب لنفسك حتى عندما يتحدث في فصل "الحزن" - عن هذه الكلمة التركية ذات الأصل العربي ( huzn ) لرؤيتين تاريخية وصوفية، مُشيرا لخطأ فلسفي صغير تطور على مر القرون التالية في التاريخ الإسلامي لتفسير معنى الحزن، فكما يقول أورهان:".. إذا كان الحزن مركزياً في ثقافة اسطنبول وفي شعرها وحياتها اليومية على مدار القرنين السابقين، فلابد أن ذلك يرجع إلى أننا نراه إجلالا"، إلا أن الشعور المسيطر سيكون الاستمتاع بكل صفحة وحالة من التشويق التي لا تدفع للركض على الكلمات، بل للتأنّي في تشرّب السطور والصفحات، إذ لا يخلو الأمر من مواقف طريفة وأخرى مضحكة، وأخبارغريبة وقطع تاريخية مروعة، وحياة عائلة تعتبر من الطبقة المخمليّة، وتدهور الحياة واستقرارها يعكسان صورة المدينة وأهلها بدقة ورهافة، لكن في الوقت ذاته بجرأة بعيدة عن التزيين تجعلك تشعر وكأنك تعرف اسطنبول بشكل مفاجيء، كأنك كنت منها، ولا يسعك إلا التعلق بأورهان كدليل في صحراء بِكر لن يكتشفها سواه.
الوردة السوداء
في الفصل الخامس والثلاثين يتحدث أورهان عن الحب الأول، فنستمر باكتشاف جوانب عدة من شخصيته وعوالمه الحميمة، ناهيك عن صورة ملفتة عن الأوضاع الاجتماعية المرتبطة بتاريخ المدينة بشكل لا فرار منه، لم يذكر أورهان الإسم الفارسي لها كما دأب في مواضع عدة خلال الصفحات الأربعمة وثلاثين السابقة لأماكن وأشخاص وكلمات، مُكتفياً بالإشارة لها بالوردة السوداء التي شاركته سوداويته بحكاياتها الصريحة عن حياتها وأزماتها، كما أصبحت موديله يرسمها حين كان الرسم لايزال عادة يمارسها فقط لأنها جعلته يرى نفسه مُميزاً في طفولته، وخلال هذا الفصل اللطيف نسترق النظر لحب طفلين يحاولان البقاء معاً، ورفض والد الوردة السوداء لعلاقتها بأورهان يدفعه للتخطيط لاختطافها والعيش معاً، الأمر الذي يتم بالفعل، لكن الاستمرار في الأمر يخفت حتى تختفي الوردة السوداء وترسل له بتحياتها من سويسرا، ويندفع أورهان يكتب خطابات لا يصله بعدها أي رد.
التفاصيل الصغيرة التي يذكرها أورهان تثمّن رؤيته المختلفة وتجعلنا أكثر تعلقاً بها، حيث يمكن التقاط تفاصيل قد يعرفها الكل في الحياة اليومية عن تركيا – عربا وغربا – مما لم يخطر بالبال أن نحلله كما يقدم لنا أورهان، كل هذا يضفي إعجابا براقاً بكل ما يحكيه.
تصبح السوداوية موحشة بسبب ذلك الفقدان، ويختفي معه الإحساس بالمرح والانتصار أثناء الرسم، فنستشعر معنى السجن الحقيقي، فيقول أورهان:" ..كأن العيش بدون رسم وعدم وجود مهرب من العالم الواقعي – ما يسميه الآخرون "حياة" – يتحول إلى سجن"، ولكن إدراك الألم هنا يتبدى كعصا الساحر في تطوير الذات كما المعاناة تخرج أفضل ما فينا.
وإذ لا يلبث أورهان يهرب من انكسار قبله والفقد في مناحي عدة، منها: الرسم، إلى التقليل من شأن مشاعره مقارنة بالحزن العظيم للمدينة لاجئا لمفاتن اسطنبول، وفجأة يتساءل – وكأنه يسألنا والعالم ويجيب – ".. لماذا يجب أن نتوقع من مدينة أن تعالجنا من آلامنا الروحية؟، ربما لأننا لا نستطيع إلا أن نحب مدينتنا مثلما أحببنا عائلتنا".
المفاجأة الإدراكية
وبالعودة للمفاجأة الإدراكية العميقة سابقة الذكر، يذوب أورهان في ارتباط عميق بالمدينة، يعترف به بحب ظاهر حيث الحكمة هدية مدينته، وكأن الباب الخلفي للمدينة أصبح عالمه الثاني وهو جزء من الفوضى الشعرية كما يقول، ويسطع نور أورهان بعظمة كعظمة اسطنبول حين يذكر شعوره بأنه الوحيد الذي كشف سر المدينة: ".. وكأنها مدينتي وحدي، لا أحد رآها على الإطلاق كما كنت أراها في تلك اللحظة!."
وبحماسة ينطلق في صورة الشرق الرائعة والنقية والجميلة للأسباب نفسها التي جعلتها مملة في عيونه، فتتلاشى السوداوية المذهلة، وعندها يقول:" .. كنت أفهم ببطء أنني أحببت اسطنبول لخرائبها وحزنها وعظمتها."
وفي الفصل الأخير بعنوان" محادثة مع أمي"، نجد أورهان الذي يدرس العمارة محاولا الاقتناع بأنها فن ليرضي أمه، التي طالما توسّلت له أن يكون "طبيعيا وعاديا، مثل الآخرين"، كالسلطان أورهان الذي اختارت اسمه عمداً كونه لم يطارد المشاريع العظيمة ولا حاول جذب الانتباه، فقط عاش حياة عادية دون إفراط، لكنها قصدت فقط ألا يطير أورهان ابنها في عوالم ورؤى غامضة بالنسبة لها، فقد بقيت مصرةً أن يدرس العمارة، ويعمل ليكون غنياً بعد أن تناقصت ثروة العائلة بشكل كبير، ونعيش في تفاصيل نقاش حاد أحيانا ومحبب في أحيان أخرى، بينما أورهان يصر على ترك العمارة ليكون رساما، وبمنطق الأم الساخر والمهين القلق في الآن ذاته على مستقبل أورهان، يخرج هذا الأخير غاضبا، ورغبة الفرار إلى البعيد تحتدم داخله بينما نيرانه ونيران المدينة تشعله، وهو يتجول في طرقاتها حتى منتصف الليل، ليعود إلى مكتبه أمام الورق، الذي تعود أن تملأه الرغبة في تعبئة مساحاته بالشكل وباللون، يقول لحظتها:".. لا أريد أن أكون رساماً.. سأكون كاتباً".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق